للشاعر النرويجي: أرنولف أوفرلاند
ولد الشاعر النرويجي أرنولف أوفرلاند (Arnulf Øverland) في مدينة "كريستيان سوند" عام 1889، نشأ وتعلَّم في مدينة "بيرغن"، ثم انتسبَ إلى الحزب الشيوعي النرويجي في مطلع العشرينات من القرن الماضي. لكنّ هذا الشيوعي المتحمّس، عاد وغيّـر موقفه جزئياً عام 1937، اعتراضاً على "محاكمات موسكو" التي جرتْ في عهد ستالين، وأُعدمَ خلالها عشراتُ البلاشفة، لا سيّما التروتسكيين منهم، بتهمة معاداة الاتحاد السوفيتي.
عُرف أوفرلاند بمعارضته العنيدة للنازية، وعندما وقعت النرويج تحت الاحتلال الألماني النازي بين عامي 1940 و 1945، كان أوفرلاند من أبرز المقاومين للاحتلال، إذ نشر العديد من القصائد والمقالات، وخطبَ بالناس في الساحات العامة، مما أدّى إلى سجنه وسجن زوجته. حيث وُضع أولاً في معسكر اعتقال "غريني" في النرويج، ثم اقتيد إلى خارج البلاد، وأُودع في معسكر اعتقال "ساكسن هاوزن" في ألمانيا، وبقي في المعتقل إلى أنْ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
نشر أوفرلاند القصائد التي كتبها خلال الحرب والاعتقال في مجموعته الشعرية الثالثة: "أنقذْنا كلَّ شيء" عام 1945، وكان قد نشر قبل الحرب: "الحفلة الوحيدة" 1911، "الجبهة الحمراء" 1937. ثم أصدر في سنوات ما بعد الحرب مجموعتين شعريتين: "السيف خلف الباب" 1956"، و"لحظات الحياة" 1965. ونالَ العديد من الأوسمة الوطنية والجوائز الأدبية، منها جائزة "بوبلوغ" للآداب الاسكندنافية عام 1951. إلى أنْ وافتْهُ المنية عام 1968.
تعتبر قصيدة "حذارِ أنْ تنام" ((“Dare not to sleep”: “Du må ikke sove” من أشهر قصائد أوفرلاند، ومن أكثرها تعبيراً عن الفترة التي قضاها في معسكرات الاعتقال النازية. ووجدتُ فيها ما يلامسُ الإنسان العربي اليوم، لما يُعانيه من ويلاتٍ تحت حُكم أنظمة الاستبداد من جهة، وممارسات التنظيمات الأصوليّة المتشدّدة من جهة أخرى. وقد تُعطي القصيدةُ بعضَ الأمل لنا، بأنّ بلداننا العربية سوف تتجاوز هذه المرحلة العصيبة، وتنهض من جديد مثلما نهضت الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
(( حذارِ أنْ تنام ))
استيقظتُ صباحاً بعد حلمٍ غريب
كان أشبهَ بصوتٍ يتحدّثُ إليّ
قادماً من بعيدٍ وكأنه جدولٌ يجري تحت الأرض،
نهضتُ وقلتُ: لماذا تناديني؟
"حذارِ أنْ تغفو! حذارِ أنْ تنام!
حذارِ أنْ تصدّق، إنه مجرّد حلم!"
قبل أيامٍ، تمّتْ محاكمتي
كانت المشانقُ معلَّقةً في ساحة المحكمة ذاك المساء،
وسوف يأتون إليّ - عند الخامسة فجراً.
الزنازينُ مكتظّة
كلما ارتفعت الثكناتُ فوق الأرض، غارتْ الزنازينُ تحت الأرض.
نستلقي هنا، ننتظرُ هنا، في حُجُراتٍ حجريةٍ بادرة.
نقبعُ هنا، نتعفّنُ هنا، في هذي الجُحُورِ المظلمة.
لا نعرفُ من نحنُ
لا نعرفُ ما ينتظرنا
لا نعرفُ دورَ من هو التالي،
نئنُّ ونصرخُ: هل تسمعوننا؟
ألا يوجدُ بينكم إنسانٌ يسمع؟!
لا أحدَ يرانا، لا أحدَ يعرفُ ما يعترينا، ولا أحدَ سوف يصدِّقُ ما يخـبّـئهُ النهارُ لنا.
نرفضُ ونتحدّى:
لا يمكنُ أنْ يكون هذا حقيقياً!
لا يمكن أنْ يكون البشرُ بهذه الفظاعة
لا بدَّ أنْ يوجد أنقياءٌ كرامٌ
وما زال أمامنا الكثيرُ لنتعلّمه.
هُمْ قالوا: "سوف تتخلَّى عن حياتك، عندما تُـؤمَـرُ بذلك".
لقد تخلّينا عنها سلفاً، وأسلمناها إلى العدم.
العالَـمُ باتَ منسيّاً، وكم كنّا مخدُوعين ومغدُورين.
حذارِ أنْ تنام في هذه الساعة - هذا المساء.
لنْ تذهبَ إلى عملكَ بعد اليوم
مفكِّراً بحساباتِ الربحِ والخسارة،
لنْ تذهبَ إلى حقلِكَ وماشيتكَ
سعيداً بما رُزقتَ به.
لنْ تجلسَ في بيتكَ مسترخياً
قائلاً: "العالَـمُ موحش، البشرُ بؤساءٌ ووحيدون، لا يجبُ أنْ يحدثَ ما يحدث، إطلاقاً".
لا يمكنكَ بعد الآن؛
أنْ ترضى بالظُلم الواقع على رؤوس الآخرين!
أقسمُ بآخرِ شهقةٍ من نفَسي: لنْ ترتاح يوماً، ولنْ تنسى.
لا تسامحهُمْ يا أبتي
إنهم يعرفونَ ماذا يفعلون!
أنفاسُهم تنفثُ الشرَّ ناراً
يعشقونَ الذبح، ينتشونَ بالتعذيب،
ويشتـهون رؤية الدنيا تحترق!
يحلُمون بإغراقنا واحداً.. واحداً.. جميعاً، بالدماء.
أَلا تصدّقُني؟
أَلَـمْ تسمعْ صيحاتهم؟!
هل تعرفُ كمْ من الأطفال، تركهمُ الجندُ هائمينَ في الطُرقاتِ والحقول، يرتّـلونَ صلاةَ الألم؟
أيقظتْـهُم شجاعةُ أمهاتٍ واثقاتٍ بالنصر
سوف يحمُون أرضَهم بأجسادهم، ولا خوفَ عليهم.
هل تعلم كم الأكاذيبُ سامّةٌ وقاتلة؟
ما ينفعُ الصدقُ والشرفُ والمجدُ؟!
لو تبصرُ أحلامَ طفلٍ جسورٍ، سترى سيفاً ورايةً، ستراهُ يطردُهم مزهُـوّاً ومختالاً.
هو واحدٌ مـمَّنْ تركوا بيوتهم تحت أمطارِ الفولاذ
ثم علِقتْ أسمالُهم بالأسلاكِ الشائكة وتـمـزّقتْ
ها هُمْ يتفسَّخون الآنَ...
تلبيةً لصيحةِ هتلر الآرية،
هذا هو الإنسان في النهاية.
لم أتخيّلْ ذلك يوماً، وها قد فات الأوان.
حكموا عليَّ بألّا أخرجَ من هنا.
آمنتُ بالخير، وحلمتُ بالسلام، بالعمل، بالصداقة، بقُبلة العشقِ الشذية.
لكنّ مَنْ لا يموتُ في ساحة المعركة
يُجـبَـرُ على تسليمِ رأسه للسيّاف.
أصرخُ وسطَ السواد؛
لم يبقَ سوى أمرٍ واحدٍ يجدُر فعلُه:
دافعْ عن نفسكَ
طالما أنّ يديكَ تتوقان للحياة،
احمِ نسلَكَ...
إنّ أوروبا تحترق!
مرتجفاً من البرد نهضتُ فجراً
كانت السماءُ بلا نجوم، فهي ما زالتْ بعيدة جداً، وقريبةً في آنٍ معاً.
بزغَ شعاعُ ضوءٍ من الشرقِ
وكأنه البصيصُ الأخيرُ من حلمي المخنوق.
من يوم انشقاقِ السماءِ عن الأرض
والدماءُ تسيلُ
والنيرانُ تلتهبُ بألسنةِ الرعب،
والسماءُ المرصّعةُ بالنجوم
ذبحتْها سكاكينُ الصقيع.
آخرُ فكرةٍ راودتني؛
ثمة أمرٌ وشيكٌ ورهيب:
عصرُنا قد انتهى
أوروبا تحترق!